ضحية التدخين


يقول راوي القصة:
اكتب لكم لكى تصفقون معى لكل شخص نجح في ترك السيجارة بل وعلى وجه الأخص من يصارعون من أجل تركها ويحاولون مراراً

أبى لم يحاول مطلقآ أن يترك السيجارة .. وأتت المحاولة فقط عند اكتشاف إصابته بمرض السرطان واستطاع أن يتركها للأبد بموته بعد عام واحد فقط من معرفته بذلك وأنا أفتقده الآن كثيرآ .. فكان يدخن منذ أن كنت طفلاً صغيراً أبلغ من العمر عشرة أعوام، وكانت بدايات أمي مع التدخين بعد 10 سنوات من زواجهما بسبب الضغوط والإحساس بزيادة وزنها .. أو السبب الأكبر من ذلك هي رغبتها في مشاركة أبي في شئ يفعله حتى يكون هناك توافق بينهما. 
وبالرغم أنني نشأت في هذه البيئة المدخنة لكنني لم أقع تحت براثن السجائر ولم أطرق باب التدخين .. ولم يتوافر لدي الدافع في يوم من الأيام، ربما يكون ذلك بسبب إصابتي بأزمة الربو ... ولا أعرف ما إذا كان ذلك يرجع إلي التدخين بصفتي مدخن سلبي أم أن هذا شيئاً وراثياً .. أعلم تماماً أن هذه العادة جذابة للغاية فهي مثل الطعام إذا قررت عمل رجيم (نظام غذائي قاسٍ) فأنت تتعذب وتتألم عند حرمانك منه. 
لذا كان أبي يدافع دائماً عن حقوق المدخنين، وكلما كان يحذره شخص من مضار السجائر كانت الثورة والغضب هما رد فعله الطبيعي. وبذهابي للمدرسة فقد اكتشف أصدقائي أنني من عائلة مدخنة أولاً لرائحة ملابسي المليئة بالدخان وأزيز الصدر، وبمرور الأعوام حاولت أتناسي هذا الأمر لكنني لم أستطع حيث بدأت تظهر المشاكل الصحية البسيطة لأبي بتقدمه في السن وكنت أخبر نفسي بأن هذا نتاج العمر، كان سنه 53 عاماً ويعاني من مرض السكر، ارتفاع الكوليسترول، ضغط الدم، العقم، الإرهاق. 
ثم تزوجت ورزقت بأول طفل لي وأول حفيد لأبي وأمي، وانتهزتها فرصة لكي أقنع والدي بأن يودع السجائر من أجل هذا الطفل الوديع .. إلا أن كان رده علينا "ما الذي يجدي الآن، أترك بعد كل هذه المدة ... فمهما فعلت لن يأتي بنتائج إيجابية". 
وقد اتبعت أمي طريقاً آخر غير أبي عندما نصحها الطبيب باستخدام اللاصق والتزمت بالتعليمات وتركت السجائر بلا رجعة.. وكان ما تخشاه هو الزيادة في الوزن، لكن دافعها الأقوى في البقاء مع أحفادها لمدة أطول من الزمن كان هو المسيطر. أخذت قرار الامتناع وكان أبي ما زال على قيد الحياة، على الرغم من أنها المرأة التي لا تستطيع أخذ قرار إلا بتأثير منه، وكانت تدخن حوالي 3-4 علب في اليوم، وجاء قرار الامتناع لأمي والموت لأبي في نفس الشهر "أكتوبر" فهو شهر حزن وألم وفي نفس الوقت نشوة وسعادة .. ولا جدال أن أمي مازالت عرضة للإصابة بمرض السرطان لأنها أخذت تدخن لمدة عشرين عاماً لكنها على الأقل حاولت وأصبحت صحتها تتحسن. 
أثناء فترة تدخينها كنت أبتعد عنها بقدر الإمكان وأتجنب مصاحبتها في بعض النزهات .. كان الضيق يصيبني لهذه المسافة والبعد الذي يوجد بيننا وكنت دائماً أسأل نفسي هل هذا تصرف طبيعي ؟ .. في أن أكون بعيدة بهذا الشكل عن أمي وعدم مصاحبتها ؟!!
وعلى الجانب الآخر، وبالرغم من معاناة أبي مع السجائر إلا أنه لم يعترف مطلقاً برغبته في الإقلاع عنها وكان يستشهد دائماً بشخص في يوغسلافيا مات عن عمر يناهز 92 عاماً وكان لا يزال يشرب الكحوليات ويدخن السجائر .. أي أنه لا يوجد ضرر منها على الإطلاق. وعندما شُخصت حالته على أنها سرطان، أصابنا الذهول لأننا لم نكن نتوقع ذلك .. فبنيانه كان قوياً ورقيق للغاية وفجأة أخذ يشكو من آلام لعدة شهور عرف بأنه المرض اللعين الذي تمكن منه. 
ولم يكن ألم هذا المرض اللعين أو علاجه هو المعاناة ... لكن الألم عند معرفة الحقيقة ومواجهتها وأن هذا المرض من الصعب تداركه أو علاجه، وأن جودة حياتك لن ولا تستطيع تحقيقها بعد الآن, كما أن الألم يكمن في التصرفات التي تعكس مسؤولية واهتمام وحماية مفرطة تريد أن تتركها لعائلتك من بعدك. 
وكان سيقودني إلى الجنون بتصرفاته التي تعكس مصيره، لا أنكر أنه كان إيجابياً في كل تصرفاته حتى قبل المرض وما زاد عليها إيماءاته التي تعكس القضاء والقدر مثل إخبار والدتي بأخذ أموال التأمين، كما بدأ يترك لحفيده بعض المقتنيات الخاصة به. 
وأنا لا أكتب هذه القصة لكي أثير عطف أو شفقة أي شخص يقرأها أو أود أن أعطي محاضرة له , ولو كانت هناك الكرة السحرية الزجاجية التي يستطيع الإنسان أن يرى من خلالها مصيره لكانت الحلول متاحة لأى شخص ... وكان أبي بوسعه أن يرى حفيده وهو يكبر أمامه ليس فقط الأربعة أعوام التي قضاها معه وإنما لفترة لا يعلمها إلا الله. 
إننى أفتقد حنانه، حمايته، رعايته، ذكاءه، ولروحه المرحة . وأخطر شئ في الدنيا هو أن يكون هناك فجوة بين الذي يريد أن يحققه شخص وبين ما يكون مفروض عليه. 

وهذه رسالة موجزة للغاية من ضحية للدخان بطريقة غير مباشرة !!

تعليقات