ثمن الغضب


     لا أتفق مع الدراسات (( رغم احترامي لها )) التي أشادت بأن الغضب في مكان العمل ربما لا يكون عملاً ضاراً ، بل قد يساعد على النجاح الوظيفي , لكن على الإنسان الغاضب أن يبقى تحت السيطرة وان الغضب الكامل يمكن أن يكون مدمراً ، وان المشاعر السلبية كالخوف والغضب هي مشاعر طبيعية ، وعلى قدر كبير من الأهمية ، وان الأشخاص الذين يتسمون بالحزم قادرون على الدفاع عن حقوقهم على نحو أفضل فيما يحتفظون بكامل احترامهم ، هذه الدراسة التي أجريت على ( 824) شخصاً واستغرقت نحو (44) عاماً . قد لا تتفق مع ظروف مجتمعاتنا ، والتي يخرج فيها الغضب دائماً عن سياقه ، وترتفع الأصوات عالياً ، ويختلط الحزم بالجنون بالخوف ، بالعنف وبالتالي لا يمكن أن يحقق الشخص الغاضب دائماً والمتجهم شيئاً ، وهو الذي ليس بإمكانه أن يفصل بين غضبه وبين حقوقه ، وواجباته ، وما هو مطلوب منه ، من خلال سلسلة متصلة من الانفعالات الهستيرية والتصادمية والمرعبة ، والتي وان قتلت من حوله نفسياً ، وأحياناً جسدياً ، فإنها قد تقتله هو من خلال أن هذه المشاعر الحاده والعنيفة تحدث في أغلب الأحوال اضطراباً قاتلاً في القلب حتى وإن كان غضباً مكبوتاً ، وان هؤلاء الغاضبين احتمالات اصابتهم باضطرابات القلب تزيد عشر مرات عن الآخرين . 
وهذا يفسر أسباب الوفيات التي تحدث نتيجة الصدمات النفسية ، أو حتى خسارة مباراة كروية . 

     والغضب أحياناً نحن نختلقه إذا كنا من النوع المهيأ لاستقباله فمثلاً عندما تقف داخل طابور تنتظر دورك كغيرك ، فجأة تصرخ وتغضب ، وتضرب الذي أمامك رغم أنه لم يفعل شيئاً على الإطلاق ، أو تعتدي على موظف دون سبب وبحجج التأخير مثلاً ، أو عدم الاهتمام بك ، وفي النهاية يُقال ، أو تقول إن يومك بدأ سيئاً ، وإن هؤلاء دفعوا ثمن اليوم السيئ ، رغم عدم استحقاقهم ، هذه الصورة المكررة يعكسها قول مفكر إيطالي ( بأن نتائج الغضب أخطر بكثير من دوافعه ). 

ولو رجعنا إلى ديننا العظيم لعرفنا أن ضبط النفس , دليل لقوة الإيمان وأن الإسلام حث على ضبط النفس وكظم الغيظ , وأننا لا بد أن نتحرر من فكرة ضغوط الحياة التي كثيراً ما انزلقنا معها إلى ما لا تحمد عقباه . 

يقول الله جل جلاله في كتابه العزيز : ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) آية 134آل عمران 

كما أوصى النبي ( بعدم الغضب وذلك حينما سأله رجل أن يوصيه فقال ثلاثاً لا تغضب ، فقال الرجل بحثت في الغضب فإذا هو أساس كل شر .ولقد دعانا الرسول الكريم إلى ضبط النفس مبيناً أنه ليس ضعفاً بل هو دليل على قوة إيمان صاحبه حيث قال : ( ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب ) . 

وعلى الغاضب أن لا يعتبر أن ضبط النفس صورة من صور الضعف ، بل على العكس هو صورة من صور القوة لأنها تشمل العفو والإحسان لمن ظلمك ومجاهدة النفس والإنتصار عليها . 

وعند الغضب ينصح الإنسان بأن يتوضأ لأن الغضب من الشيطان والشيطان من نار والماء يطفئ النار ولقد قال رسول الله حينما رأى رجلاً غاضباً  إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب الذي به وهي ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) . 

وأختم مقالي بهذه القصة الطريفة لعلها تروق لمن يكتم غضبه وتدفعه إلى المزيد من الكتمان لكسب الثمن ، وتروق للرجال والنساء لأنها كلا منهم لا يستفيد من الغضب ( ظلا متزوجين ستين سنة ، كانا خلالها يتصارحان حول كل شيء ، ويسعدان بقضاء كل الوقت في الكلام أو خدمة أحدهما الآخر ، ولم تكن بينهما أسرار ، ولكن الزوجة العجوز كانت تحتفظ بصندوق فوق الرفوف , وحذرت زوجها مرارا من فتحه أو سؤالها عن محتواه ، إلى ان كان يوم أنهك فيه المرض الزوجة ، وقال الطبيب إن أيامها باتت معدودة ، وبدأ الزوج الحزين يتأهب لمرحلة الترمل ، ويضع حاجيات زوجته في حقائب ليحتفظ بها كذكريات ثم وقعت عينه على الصندوق فحمله وتوجه به إلى السرير حيث ترقد زوجته المريضة ، التي ما أن رأت الصندوق حتى ابتسمت في حزن وقالت له : لا بأس .. بإمكانك فتح الصندوق .. فتح الرجل الصندوق ووجد بداخله دميتين من القماش وإبر النسج المعروفة بالكروشيه ، وتحت كل ذلك مبلغ ( 25 ) ألف دولار ، فسألها عن تلك الأشياء ، قالت العجوز هامسة : عندما تزوجتك أبلغتني جدتي أن سر الزواج الناجح يكمن في تفادى الجدل والناقر والنقير . ونصحتني بأنه كلما غضبت منك ، أكتم غضبي وأقوم بصنع دمية من القماش مستخدمة الإبر .. هنا كاد الرجل ( يشرق ) بدموعه : دميتان فقط ؟ يعني لم تغضب مني طوال ستين سنة سوى مرتين ؟ وبرغم حزنه على كون زوجته في فراش الموت فقد أحس بالسعادة لأنه فهم أنه لم يغضبها سوى مرتين . ثم سألها : حسناً ، عرفنا سر الدميتين ولكن ماذا عن الخمسة والعشرين ألف دولار ؟ 

أجابته زوجته : هذا هو المبلغ الذي جمعته من بيع الدمى.


تعليقات